المجلات المعلبة تفقد صلاحيتها

 المجلات المعلبة تفقد صلاحيتها

د. صبري الحيقي

     من خلال خبرة طويلة في التحرير وإدارة المجلات الأدبية، تمتد من عام ١٩٨٠ إلى ٢٠١٩، كانت تحكمنا البديهيات التي تعارف عليها العالم في النشر، وفي التفريق بين الصحيفة والمجلة، والمجلة المصورة والمجلة الأدبية، والأسس التي تسم منابر النشر بالحيوية والتجدد، وكل هذا كان من الشروط التي نتعلمها ونعلمها للعاملين في تلك المنابر.

     ومن خلال متابعة المجلات الأدبية، ومنابر الثقافة، سنجد في السبعينيات والثمانينيات، كانت المنابر الثقافية، (نسبيا) تحترم تلك الأصول وتعمل بها، باستثناء محدود، لكن في السنوات الأخيرة، خاصة في العشرين سنة الماضية، لاحظت انتكاسة حقيقية، لا أدري لماذا تم إهمال التنبيه إليها، وقد اعتزلت النشر فترة من الزمن، وحينما عدت هذا العام، اكتشفت أن بعض المجلات الأدبية المهمة، تحتاج إلى تنبيه بصوت عال، لأخطاء فاضحة، وبأكثر من موضوع.

المشكلة:

      سأشير إلى بعض الأسس التي تغيب عن الكثير من المجلات الأدبية.

• مجلات موادها معلبة، بمعنى أنها تنشر موادا قد انتهى زمانها، أو أنها تقع خارج الزمان، أو متأخرة عنه.

• نشر مواد الصحف في المجلات، ولا أقصد هنا حجم المادة، فقد تكون صفحة واحدة وهي مادة مجلة، وقد تكون عشر صفحات وهي مادة صحيفة.

• لا تفرق بين من يبدع ويضيف وبين من يعيد انتاج ما انتج ويكرر. ولا تمتلك تصنيفا عادلا للكتاب.

• لا تفرق بين يمتلك القدرة على ضبط الموسيقي والإيقاع والرؤية الجديدة في الشعر، وبين من يثرثر، ويتوهم أنه يكتب شعرا، وإن كان مشهورا، وهذا لا يعني رفض قصيدة النثر بل على العكس، ولكن هناك فرق بين يمتلك الحس الشعري الحقيقي ويستطيع أن يكتب شعرا مفعلا كما يكتب نثرا، ومن لا يستطيع أن يكتب سوى ثرثرات.

• إهمال المتابعات لكل جديد في وقته.

• مشكلة خطيرة جدا لاحظتها في مجلة شهرية، تهمل علامات التنصيص وعلامات الترقيم وتنصيص الأسماء والأماكن ، وقد أخبرني بعض الكتاب الذين نشروا في تلك المجلة أنهم يميزوا الأسماء بعلامات تنصيص وتقوم المجلة بحذفها. وهذت معناه إما تجهيل متعمد أو جهل متعمد وكلاهما خيانة.


من الأسباب التي لمستها:

     لن أحدد أسماء الأشخاص والمجلات، لأن الهدف هو التنبيه إلى مشكلة مهمة، تحتاج إلي إصلاح ومراجعة، ولأن الهدف هو المصلحة العامة والتصويب، وليس التشهير.

• سأشير إلى مجلة ادبية شهيرة، غير منتظمة، قبل عدة سنوات، تم استقدام كاتب وصحفي مشهور، من بلد آخر لإدارتها، وكانت تصدر كتابا شهريا، وقد أدارها بعقليته وخبرته الصحفية، رغم إنه أديب معروف، فكانت صحيفة أدبية ثقافية على شكل مجلة، وكان الكتاب الشهري المجاني، الذي ينشر مع المجلة، مسطحا جدا، بل بعض تلك الكتب في منتهى العبث، مثلا احد تلك الكتب كان ترجمة لثرثرات شخصية لكاتب أجنبي لا يستحق أن يلتفت إليه عاقل، في الوقت الذي تعاني فيه الكثير من الكتب، والأبحاث المهمة من الإهمال والإحباط، بسبب استسهال المنابر المختصة، وتقاعسها عن دورها في بذل بعض الجهد البسيط لحسن الاختيار، وبسبب المستوى الفكري لتلك الإدارة التي تقدم العلاقات الشخصية على القيم العامة والمصلحة العامة. وهذه من الأسباب التي تساهم في تدمير الطاقات المحلية، وتترتب عنها فشل البلدان وانهيار الأنظمة، وإن كان ذلك بعد حين. وإن كان ذلك لا يدرك في حينه.

• مجلة أدبية مهمة وعريقة ومنتظمة، بنفس الإمكانيات العالية للسابقة، وتدار بنفس آلية المجلة السابقة، وحاليا يديرها أديب معروف بعقلية خبرته الصحفية، فكانت غالبا صحيفة أدبية على شكل مجلة. إضافة إلى انتهاك حرمة النص ببعض التعديلات، التي لا تحدث في أي بلد في العالم إلا في بعض بلدان العالم (التالف)...

• أيضا مجلة فصلية مهمة جدا، منتظمة منذ صدورها، تمتلك إمكانية الارتقاء إلى مجلة محكمة، فقط لو تلتفت إدارتها للاستعانة بمن يحسن هذا الدور. نجدها تعاني من الخلط بين مواد الصحف ومواد المجلات الشهرية، في حين أن المجلة الفصلية تختلف موادها عن المجلة الشهرية والصحيفة.

وبالمقابل سأحدد بعض المجلات، في مقدمتها مجلة (فصول) المصرية، في أعدادها القديمة فقط، ومجلة (إبداع) المصرية، والتي توقفت عن الصدور منذ سنوات طويلة، ومجلة القاهرة الثقافية، التي كانت تصدر في الثمانينيات.

 وسأحدد من المجلات التي ما زالت تصدر بانتظام: مجلة (الفكر) الكويتية ومجلة (العلوم الإنسانية والاجتماعية) لجامعة الكويت، مثالا لسمو الإدارة ودقتها ومنهجيتها، واحترامها لأصول النشر واحترامها لحق المؤلف ومسؤوليته في صياغة مادته، والمسؤولية هي الأهم.

الملاحظة التي تجمع كل تلك المنابر، أنها لا تهتم بمتابعات كل جديد، وهذه أهم مميزات المجلات بشكل عام. وهي الميزة التي تعطي المجلة حيوتها وتحقيق وظيفتها الزمانية والموضوعية. وتنأى بها عن النمطية والجمود، وعن التعليب وفقدان الصلاحية.

نعرف جميعنا أن تلك المجلات تصل إليها مرسلات كثيرة جدا، ولهذا، من السهل جدا أن تختار ما تقدمه في الاطلاع عليه وتقرير أوليته من عدمها، وذلك من خلال موضوع الرسالة (المادة)، فعنوان المادة التي ترتبط بحدث أو مناسبة مزامنة ينبغي أن تقدم على كل المواد، في الاطلاع عليها.

والمحرر الذي يتعامل مع مادة عن حدث مهم مثل إصدار جديد، أو فعالية أدبية أو جائزة أدبية تمت الكتابة عنها في وقتها بنفس مقاييس نشر المادة التي لا ترتبط بمتابعة حية، محرر يحتاج إلى أن يتعلم اصول إدارة تحرير المجلات. ولن أقول كلاما مستفزا، وإن كانت له ضرورة.

     *الحقيقة، هذه الانتكاسة الثقافية لا تنحصر على منابر النشر، ولكن تمتد إلى صلب الإدارات الثقافية، والقيم الثقافية والمصطلحات النقدية.

      وقد تعرضت لتصويب مصطلح نقدي، على مستوى العالم، في بحث محكم، تمت إجازته قبل عام، كانت من المشاكل الإضافية لذلك المصطلح في اللغة العربية، التحريف الذي طاله منذ أكثر من عشرين سنة إلى الآن.

أساس المشكلة:

     وهذه ليست مشكلة إدارة المجلات فقط كما تبدو، ولكنها أساسا مشكلة في أجهزة الدولة، التي تهيمن على كل شيء، ومن ذلك إدارة المنابر الثقافية.

      ومن ثم علينا أن نذكر ونتناهى عن كل منكر، تبعاته دمرت بعض الدول، فتبعات هذه الإشكالات ستطال الأنظمة والجماعات، بعد الأفراد، وإن طال الزمن، وإذا كان هذا قد أصبح واضحا في بعض الدول مثل (اليمن) و(ليبيا)، فإن الدول التي تظن نفسها بعيدة عن الانهيار، ستكتشف بعد فوات الأوان أنها أخطأت الفهم وأخطأت التقدير.

خلاصة:

    هناك مستوى عام لإدارة المصالح العامة، يجب أن تحرص على سلامته كل الأنظمة التي تريد الاستمرار في البقاء. وبدونه تدخل تلك الدول في العد التنازلي للسقوط، طال أو قصر، و(اليمن)أوضح مثال. فاستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير في إدارة المصالح العامة، كان قد جاوز كل الحدود، فمثلا كانت وكيلة وزارة الثقافة لشؤون المسرح، بمؤهل ابتدائي، وبدون كفاءة إدارية. وإمعانا في استفزاز وتدمير كفاءات البلد من أهل التخصص، كانت تلقب الدكتورة، استمرت تلك الوكيلة أكثر من خمسة عشرة سنة، وفي كل المناصب الإدارية كان استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، هو السائد، فكانت النتيجة خراب مازال يطحن (اليمن) وأهلة. ولن تكون الدول الأخرى التي تسير بنفس الآلية بمنأى. وإن طال الزمن وإن غدا لناظره لقريب.


تعليقات

المشاركات الشائعة